LegalCounsel
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تحوّلات العلاقات الدولية وتداعياتها على العالم العربي

اذهب الى الأسفل

تحوّلات العلاقات الدولية وتداعياتها على العالم العربي Empty تحوّلات العلاقات الدولية وتداعياتها على العالم العربي

مُساهمة  abadi 18/7/2010, 10:57

الدكتور عبدالله تركماني
شهد نظام العلاقات الدولية في التاريخ الحديث عدة تحوّلات توافقية بين الأطراف الدولية الرئيسية في كل مرحلة : معاهدة وستفاليا في العام 1648 التي أسست لمفهوم " سيادة الدولة " بعد الحروب الدينية في أوروبا ، ومعاهدة فيينا في العام 1815 بعد هزيمة نابليون بونابرت وسيادة مبدأ " توازن القوى " في العلاقات الدولية ، ومعاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى وإنشاء " عصبة الأمم المتحدة " ، واتفاقية يالطا بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وإنشاء " هيئة الأمم المتحدة " . ومنذ سقوط " جدار برلين " ونهاية الحرب الباردة في العام 1989 ينشغل الساسة والمؤرخون وعلماء السياسة والعلاقات الدولية بتحليل النظام الدولي الجديد وطرح التساؤلات التي يثيرها دور القوة الأمريكية المهيمنة .
فبالرغم من طموح شعوب العالم إلى تطوير أنماط جديدة من الحياة الدولية المعاصرة تعبّر عن حاجة العالم إلى نظام دولي جديد يتماشى مع حقائق الحياة ، ويوفّر الأمن والعدل والتقدم والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام لشعوب ودول العالم ، وصولا إلى نظام يقوم على أساس من الحقائق الرئيسية للتعددية الثقافية وتعدد الأقطاب والاعتماد المتبادل وتوازن المصالح ، والحق بالمشاركة الجماعية في إدارة هذا النظام ومؤسساته الفاعلة . إلا أنّ شعوب العالم ونخبه ما فتئت تتساءل عن سمات المرحلة الجديدة التي تبدو بازغة في الأفق ، خاصة بعد فرض الوصاية الأمريكية على العراق ومحاولة فرض الحل الصهيوني للقضية الفلسطينية .
إذ يمكن أن نحدد المسألة العراقية باعتبارها المحك الرئيسي لتحوّلات جذرية في بنية النظام الدولي ‏،‏ هيكلا وتفاعلا‏ ،‏ باعتبارها إحدى أهم القضايا المحورية في إعادة تشكيل هذا النظام‏ .‏ ‏ ففي نوفمبر/تشرين الثاني 1990‏ سمح النظام الدولي ، في ظل معادلات قوة معينة ، بإمكانية استخدام القوة العسكرية ضد العراق بعدما غزا الكويت ‏،‏ حيث كان هذا إيذانا ببدء الانفراد الأمريكي والانسحاب السوفياتي من قيادة النظام الدولي ‏.‏ وفي نوفمبر/تشرين الثاني ‏2002 أعاق النظام الدولي إصدار قرار بناء على رغبة أمريكية باستخدام القوة العسكرية بصورة تلقائية ضد العراق ‏،‏ وبالتالي لم يمكّن مجلس الأمن الولايات المتحدة الأمريكية من فرض هيمنتها على النظام الدولي‏ ،‏ وقد ظهرت هذه التحوّلات في قرار مجلس الأمن رقم‏1441‏ في ‏8‏ نوفمبر/تشرين الثاني ‏.‏
وطوال الفترة من تاريخ صدور القرار 1441 إلى بداية الحرب الأمريكية – البريطانية على العراق في 20 مارس/آذار 2003 كان العالم أمام فترة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية والأمم المتحدة معا ،‏ إذ شهدت صراعا بين رؤيتين / تيارين يتفقان على الغاية وهي ضرورة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية ، لكنهما يختلفان على الوسيلة : تيار الحرب وقادته الولايات المتحدة ومعها بريطانيـا ، أما التيار الثاني ( فرنسا ، وألمانيا ، وروسيا ، والصين ، والمجتمع المدني العالمي ) فهو التيار الرافض للحرب ، الذي طالب بمنح الفرصة والوقت الكافي لفرق التفتيش الدولية لاستمرار عملها في العراق ونزع أسلحته للدمار الشامل .
وهكذا ، كان أمام الإدارة الأمريكية إما المضي قدما لشن الحرب دون الالتفات إلى المعارضة الدولية وكذلك تجاهل الأمم المتحدة إن لم تستطع كسب التأييد لموقفها ، أو أنها سوف ترضخ للمعارضة الدولية وتعطي وقتا كافيا للمفتشين ، ولكنها اختارت الاحتمال الأول لاعتبارات عديدة أبرزها : مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط . وهكذا ، تكرّست مرحلة جديدة من الفوضى والاضطراب في النظام الدولي تتسم بازدواجية المعايير ، وتخلق بيئة مواتية لنمو الإرهاب والتطرف ‏، ومزيدا من انتهاكات حقوق الإنسان .‏
ومنذ كارثة 11 سبتمبر/أيلول 2001 كان واضحا أنّ التاريخ سيُسجل هذا اليوم كمحطة فاصلة بين كل ما سبقها وما سيعقبها على صعيد الفكر الاستراتيجي الأمريكي واستطرادا العلاقات الدولية ، فالنتائج والتداعيات لن تقل عن مستوى حرب عالمية ثالثة ، ذلك أنّ الهجمات الإرهابية على أمريكا قد خلقت أوضاعا عالمية جديدة وأفرزت معادلات ومتغيّرات من شأنها أن تقلب الموازين وتعيد ترتيب القضايا العالمية وفقا لمعايير ومصالح فرضتها المستجدات والعلاقات الدولية . ولعل ما أعلنه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ يوم 9 يوليو/تموز الجاري من أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم تغزُ العراق بناء على معلومات جديدة أكيدة عن أسلحة التدمير الشامل العراقية بل لأنها قرأت المعلومات " من منظور جديد " ، أي " الحرب الاستباقية " بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول ، يؤكد مدى الفوضى التي أصابت نظام العلاقات الدولية .
وتبقى الأسئلة المهمة وثيقة الصلة بمقاربتنا ‏:‏ مامفهوم الإدارة الأمريكية للعلاقات الدولية الحالية ؟ لماذا تصر علي أنّ مكافحة الإرهاب والاستبداد هي مدخل تأسيس مفهوم جديد للعلاقات الدولية ؟ كيف تمارس سياسة إعادة هيكلة المنطقة العربية ؟ هل تتجه إلى تفكيك الوحدات الوطنية القائمة وإعادة تركيبها في وحدات إقليمية أكبر؟ ما احتمالات نجاح واشنطن في إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالح استراتيجيتها ؟ ما مصير الشرعة العالمية لحقوق الإنسان ؟ ‏.‏
تحوّل العلاقات الدولية
في خطابه بمناسبة يوم الاتحاد في العام 1991 تحدث الرئيس جورج بوش الأب إلى الأمة الأمريكية وإلى العالم مبشّرا بقيام نظام عالمي جديد يقوم على التعاون والسلام والاستناد إلى العدالة وأحكام القانون الدولي والشرعية الدولية في ظل قيادة الولايات المتحدة للعالم بوصفها القوة العظمى الوحيدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي . وتفاءل الكثيرون بميلاد عالم جديد يسوده التعاون والرفاهية واحترام الحقوق والحريات ، وتتراجع فيه الحروب ويتم التوصل إلى تسويات سلمية لنزاعات وصراعات مزمنة في بقاع العالم المختلفة من خلال " الديبلوماسية الوقائية " . حيث عرّف التقرير الصادر عن الأمين العام للأمم المتحدة الديبلوماسية الوقائية بأنها " العمل الرامي إلى منع نشوب منازعات بين الأطـراف ، ومنع تصاعد المنازعات القائمة وتحوّلها إلى صراعات ، ووقف انتشار هذه الصراعات عند نشوبها " .
ولكنّ العالم بدأ يدرك ، بعد مرور بعض الوقت ، أنّ ما بشّر به الرئيس بوش الأب من سلام وتعاون وعدل لم يتحقق ، ففي ظل وهم الحلم بالوعود الأمريكية ازدادت حدة الفقر والبطالة والتهميش وازدادت حدة بعض الصراعات وظلت الصراعات القديمة قائمة وظهرت صراعات جديدة وتعاظمت انتهاكات حقوق الإنسان ، وصولا إلى الحرب الأمريكية – البريطانية ضد العراق في 20 مارس/آذار 2003 .
‏ ومع مجيء جورج بوش الابن إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض بدا واضحا أنّ الاتجاه العام للسياسة الخارجية الأمريكية سوف يكون في نطاق بسط الهيمنة الأمريكية على العالم ، ليس من خلال الديبلوماسية المرنة " الوقائية " فحسب وإنما من خلال ديبلوماسية القوة السافرة " الحرب الوقائية " التي لا تتخفى في أي قفاز حريري .
الحروب الوقائية
ترتكز استراتيجية الحروب الوقائية علي قاعدتين أساسيتين‏ :‏
القاعدة الأولى ، أنها تعتمد علي الضربات المباغتة دون انتظار انكشاف الأدلة العدوانية للطرف الآخر المقصود‏ .‏ فقد أوضح وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد لوزراء الدفاع في حلف شمال الأطلسي‏‏ أثناء اجتماعهم في بروكسل يوم‏ 6‏ يونيو/حزيران 2002 أنّ "‏ الحلف لا يمكن أن ينتظر الدليل الدافع "‏ حتى يتحرك ضد المجموعات الإرهابية أو يهدد الدول التي تملك الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية ‏.‏
القاعدة الثانية ، أنّ استخدام السلاح النووي في هذه الضربات الوقائية مسألة محتملة ، ليس فقط السلاح النووي التكتيكي ولكن ربما السلاح النووي الاستراتيجي‏ .‏
وهكذا ، أكد الرئيس الأمريكي جورج بوش بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول 2002 في أول وثيقة شاملة ، تحت عنوان " استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة " ، مبررات التحوّل الجذري الذي طرأ على استراتيجية الولايات المتحدة في العالم ، منذ وصوله إلى السلطة ، وخاصة بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001 .
إنّ هذه الوثيقة تمثل تحوّلا تاما عن الأفكار والمبادئ التي قامت عليها السياسة الخارجية الأمريكية طوال خمسين عاما مضت‏ والتي قامت على مبدأي " الردع " و " الاحتواء " ،‏ هي أول تفسير شامل وتفصيلي لما نشهده من ممارسات للسياسة الخارجية لإدارة بوش‏ ،‏ في العالم وفي الشرق الأوسط‏ كما لمسناها في فلسطين والعراق ،‏ وتحديد صريح لما سوف تسير عليه هذه السياسة في المستقبل ‏كما يمكن أن نشهدها في إيران وسورية .‏
وعن سبب اعتماد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة خيار " الحرب الوقائية " ورد في الوثيقة : " إنّ على الولايات المتحدة أن تحتفظ وتظل محتفظة بقدراتها على إحباط كل مبادرة يقوم بها أو يفكر في القيام بها أي عدو من أعدائنا للنيل من قوتنا ، سواء كان هذا العدو دولة أو غيرها كـ " الشبكات الإرهابية " ، وأن ننتزع منه القدرة على فرض إرادته علينا أو على حلفائنا أو أصدقائنا في العالم .. بل ستبقى قوتنا القوة الكبرى التي تردع جميع خصومنا وتشلُّ قدراتهم سواء كانوا خصوما بالفعل ، أو خصوما محتملين ، أو من أولئك الذين يسعون للتسابق إلى التسلح ليصبحوا معادلين لنا أو أقوى من قوة الولايات المتحدة " .
وإذا كانت الوثيقة الاستراتيجية غنية بالمعلومات عن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية فمن المفيد أن نتعرف على أهم ما جاء في خاتمتها مما يشكل فلسفة الاستراتيجية الجديدة . تقول الخاتمة : " لم يعد في زماننا فوارق فاصلة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية . ففي المجتمع الجديد مجتمع العالم الواحد أصبح لجميع الأحداث التي تطرأ على أي جزء في العالم خارج حدودنا تأثير عميق على ما يجري داخل بلادنا . وقد أصبح واجبا علينا التعامل مع ظاهرة خطيرة هي : أنّ الأشخاص والتنظيمات السرية سيكون في إمكانها الحصول على وسائل التدمير التي كانت لا تصل إليها من قبل إلا الجيوش النظامية ، والأساطيل الحربية " .
وعاد الرئيس بوش ، بمناسبة عيد الاستقلال يوم 4 يوليو/تموز 2003 ، ليؤكـد " سنتحرك في أي وقت نرى ذلك ضروريا ولن نسمح لأية مجموعة إرهابية أو نظام خارج على القانون أن يهددنا بأسلحة الدمار الشامل " . واعتبر أنّ " مهمة الولايات المتحدة لا تنتهي مع إزاحة الأخطار الكبرى لأنّ دستورنا ينص على احترام الحرية كحق لجميع البشر " .
إنّ جوهر مذهب بوش الجديد هو استعمال القوة في تحقيق الأهداف الديبلوماسيـة ، وتبنّي نهج التهديد وتحديث الأساليب القديمة في استعراض القوة ، واللجوء إليها دون تردد ، وتجاوز القيود التي تحدُّ من استعمالها . ويعني ذلك بإيجاز :
أولا- تآكل مفاهيم السيادة والسلامة الإقليمية للدول وزوال التحصّن وراء تفسيرات عن مبادئ القانون الدولي ، والشأن الداخلي ، والتمترس خلف الحدود الوطنية .
ثانيا- التكيّف مع الضوابط الجديدة في العلاقات الدولية ، وهي مقاومة الإرهاب وملاحقته ، والتصدي لمن يلجأ إليه ومعاقبة الدول المتراخية ، وتقييد التحرك الديبلوماسي للدول المشكوك في ولائها ، وطرد الدول المارقة بالملاحقة والتهمـيش .
ثالثا- التصدي لمحاولة تملّك أو تصنيع أسلحة الدمار الشامل ومنع الدول من الحصول على أسلحة استراتيجية تهدد جيرانها ، وذلك بالتوصل إلى تفاهم دولي للالتزام بضوابط معينة لتصدير واستيراد المواد ذات الاستعمال المزدوج .
رابعا- التصدي للأنظمة المستبدة التي تنتهك مبادئ حقوق الإنسان بشكل يهدد الأمن والسلام الإقليمي ، ويؤذي شعوبها وجيرانها .
‏إنها المرة الأولى منذ العام 1945 التي تعلن فيها أعظم قوة في العالم - بشكل رسمي - أنّ نموذجها هو الوحيد ، وأنّ أية معارضة له هي ، بناء على موازين القوى ، إرهابية بالقوة . هذه هي نظرية بوش التي تقوم على قلب المعادلة الدولية التي أرست مفاهيم التعايش والوفاق على مدى القرن العشرين ، وهي تحويل جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمتساوية في الحقوق إلى دول حليفة تابعة للولايات المتحدة ، وبالتالي تحويل منظمة الأمم المتحدة إلى مجرد " كاتب عدل " يسجل ويصادق ، وليس لديه القدرة على الاعتراض .
أما الخطورة في هذه الاستراتيجية " الحروب الوقائية " فإنها ناتجة عن كونها مفتوحة الاحتمالات ، لا تتقيد بحدود الجغرافيا السياسية ، ولا تحترم قواعد القانون الدولي .
نتائجها وتداعياتها
لقد كانت استراتيجيتا " الاحتواء " و " الردع " متوافقتين مع ميثاق الأمم المتحدة الذي يكفل لأية دولة الحق في الدفاع عن نفسها عندما تتعرض لهجوم‏ ،‏ أما استراتيجية " الحروب الوقائية " فهي تتعارض تماما مع هذا الميثاق وتعطّل دور الأمم المتحدة كلية‏ .‏ فهي تعطي الولايات المتحدة حق العدوان تحت زعم أو غطاء الدفاع عن النفس ، كما أنها تعطّل دور الأمم المتحدة في كفالة الأمن والسلم الدوليين .‏
وهكذا ، يبدو من الواضح أننا نعيش عصرا اختل فيه التوازن الدولي الذي كان يمثل عنصر ردع لكافة القوى الكبرى في العالم ، بما كان يجعل للمنظمات الدولية ولفكرة السلام نفسها دورا كبيرا وأساسيا في تشكيل وعي الشعوب والحكومات . باختلال هذا الوضع وجدنا أنفسنا نقف في مواجهة مباشرة مع استفراد أمريكي بمقدرات العالم ، فاتضحت - بقوة - نزعة العسكرة والتوسع الامبراطوري ، بما يجعلنا نشعر أنّ فكرة القانون الدولي أو فكرة السلم الدولي أو ما يشابه هذه العبارات من بقايا أدبيات الحرب الباردة قد انتهت ، ليتحول العالم مرة أخرى إلى وضعية الغاب لا يمكن البقاء فيه إلا للأقوى أو لمن يسمح له القوي بالبقاء .
ولكنّ هذا النزوع الامبراطوري الأمريكي سوف يثير مشكلات وعقبات ومصاعب‏ ,‏ يمكن إجمالها في عدة إشكاليات‏ :‏
(1) - إشكالية الاستقلال‏ ،‏ فقد قام عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية على اعتبار أنه ينتظم من دول مستقلة‏ .‏
(2) - إشكالية المقاومة‏ ،‏ إذ أنّ مفهوم المقاومة من أجل التحرر الوطني أو الحفاظ علي الهوية القومية والثقافية أو استعادة الحقوق وفق المقررات الدولية أو حتى من أجل تحرير الشعوب من نير الاستبداد ‏,‏ كان قد استقر في الوعي الإنساني باعتباره جزءا من التوجه العام للتحرر العالمي .‏ بينما لاحظنا أنّ الإدارة الأمريكية قد اعتبرت المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي إرهابا يستوجب المنع والملاحقة ، في حين اعتبرت إرهاب الدولة الذي مارسته قوات الاحتلال الإسرائيلي " دفاعا عن النفس " وجزءا من المعركة العالمية ضد " الإرهاب " .
(3) - إشكالية الضرورة الاستراتيجية‏ ،‏ إذ أنّ من أهم مقتضيات الدول هو أنّ لها أمنا قوميا قائما على الاعتراف بمفهوم الضرورة الاستراتيجية والجغرافية ‏.‏ فمع التأسيس للمرحلة الامبراطورية الأمريكية في العلاقات الدولية كثر الحديث الأمريكي عن إنزال العقاب ليس فقط بسلوك الدول المخالف لرغباتها وأهدافها‏ ,‏ ولكن أيضا تصنيف الدول من حيث قدرتها المؤسسية والوظيفية من حيث هي فاشلة أم لا‏ .‏
(4) - ‏إشكالية التغيير‏ ،‏ إذ تسعى استراتيجية استقرار الامبراطورية الأمريكية إلي تغيير الهياكل الداخلية لصناعة القرار السياسي والاستراتيجي من ناحية‏ ,‏ وتغيير آليات توزيع الثروة القومية من ناحية ثانية‏ ,‏ وتغيير نظام القيم العامة في المجتمع من ناحية ثالثة‏ .‏
(5) - إشكالية الاندماج‏ ،‏ إذ تحتل منطقة الشرق الأوسط ‏,‏ خاصة الجزء العربي منها‏ ,‏ مكانة أقل الدول والمناطق اندماجا في العالم‏ ،‏ سواء من حيث التجارة أو الإعلام‏ .‏ وعدم الاندماج هذا ليس مدفوعا فقط برغبات الهياكل المسيطرة محليا‏ ,‏ ولكن أيضا مدفوعا برغبات قوى الاستثمار العالمي بعدم الاستثمار في هذه المناطق الجغرافية ‏،‏ وربما لهذا السبب طرح الرئيس بوش جعل الشرق الأوسط منطقة تجارة حرة‏ .‏
وهكذا ، لم تدع الولايات المتحدة الوقت يفلت منها ، فاتخذت مما جرى في 11 سبتمبر/أيلول 2001 فرصة ذهبية لإعادة صوغ النظام العالمي الجديد ، ولإرساء قواعد جديدة للعبة الدولية في اتجاه الإمساك أكثر بتلابيب العالم وفرض سيطرتها المطلقة عليه .
‏ وقد تحدث البروفيسور جوزف ناي أستاذ العلوم السياسية في جامعـــــة " هارفرد " الأمريكية عن أزمة الولايات المتحدة الأمريكية : " معاناة الجمع بين القدرة والقيمة ، بين القوة الجبارة ومنظومة القيم " . فمن الأفضل ، حسب رأي جوزف ناي ، أن تقود أمريكا من خلال المشاركة والتعاون والاستمالة وطرح النموذج الإيجابي في عيون الآخرين ، وتلك هي معطيات القوى اللينة التي قد تستغرق وقتا ، وقد تقتضي ضبط النفس وكبح الجماح ورصانة الهدوء ، لكن بغيرها تظل أمريكا في حالة فوران ويظل العالم على حافة بركان .
وفي الواقع لا شيء يستعصي على فهم الأمريكيين أكثر من الطريقة شديدة التعقيد التي تتعامل بها بقية دول العالم مع الولايات المتحدة ، فهي مزيج من عدم الفهم والاستياء والإعجاب والخوف والحسد وربما الصدمة والرعب . إنّ أمة في التاريخ لم تحتج لأن ترى نفسها كما يراها الآخرون كما هو الحال بالنسبة للأمريكيين اليوم .
وعن هذه الفترة الحرجة جدا في التاريخ التي تفرض فيها الولايات المتحدة سيطرتها العسكرية وتتصرف كما يحلو لها ، يحاول كلابد بريستويتز في كتابــه " أمة مارقة " أن ينظر لبلاده بموضوعية . وفكرته الأساسية أنّ الأمة المارقة هي الأحادية الأمريكية ، ليس فقط على صعيد السياسة الخارجية ولكن على أصعدة أخرى كثيرة . وهو يعدد بحزن بعضا من الأمور التي تحدّت فيها الولايات المتحدة الرأي العالمي وتصرفت عكسه ، ومنها نزع السلاح والاحتباس الحراري واتفاقية كيوتو والمحكمة الجنائية الدولية... الخ . وفي محاولة منه لإعادة تطهير الذات كتب برستويتز قائلا : إننا نحتاج لنعيد التفكير في التوقعات الأمريكية وإدراك أنّ مشاكل الآخرين هي مشاكلنا نحن أيضا وبأننا لا نمتلك كل الحلول .
وهكذا ، لا يمكن إغفال أنّ هناك قوى أخرى على الساحة الدولية لا تستريح لهذه الهيمنة الأمريكية ، وتحاول كبح جماحها وانفرادها باللعب على مسرح الأحداث والسيطرة على مجريات الأمور على امتداد العالم . وليس هناك شك في وجود أوجه عديدة للتحفظ بشدة‏ ، من قبل العديد من السياسيين ودارسي العلاقات الدولية ،‏ على نظرية الضربات الوقائية التي أعلنتها الإدارة الأمريكية ومارستها في عدوانها على العراق ،‏ ذلك أنّ هذه الاستراتيجية قد نحّت جانبا مفهوم العدالة واستبدلته بمنطق القوة‏ ،‏ وأباحت لنفسها حق تدمير الآخر بحجة أنه يشكل خطرا على الولايات المتحدة قد يكون واقعا ‏،‏ أو يكون لا وجود له ‏.‏ إن استراتيجية الضربات الوقائية المسبقة‏ ،‏ كمفهوم من مفاهيم السياسة الدولية ،‏ خاضعة لتحفظات عديدة تثير حالة من القلق العالمي لما تشكله من خطر دائم علي الاستقرار في العالم .
التداعيات على العالم العربي
من المؤكد أنّ الولايات المتحدة في عهد بوش الابن قد ضلّت طريقها وابتعدت كل البعد عن القانون الدولي والشرعية الدولية ومبادئ الأمم المتحدة ، وهي تخطط - بعد عدوانها على العراق – لإقامة قواعد عسكرية ثابتة والتحكم في منابع النفط في المنطقة العربية كلها ، وإرهاب حكوماتها وشعوبها وإعطاء دور كبير لإسرائيل في الشرق الأوسط . ‏ وهذه السياسة تعني - بوضوح - عودة الاستعمار القديم بخططه وأساليبه وجيوشه ، كما تعني محاولة مفضوحة لقهر البلدان العربية وتجريدها من استقلالها وحريتها وقرارها .
إنّ التوجّه الأمريكي الجديد ، في الجوهر ، اتجاه هجومي وليس احتوائيا أو دفاعيا ، يسعى لإحداث تغيّرات عميقة في البنى الداخلية للعديد من دول العالم ، وهو يستند إلى قوة دولة عظمى لا منازع حقيقيا لها في العالم . وقد تحوّلت منطقة الشرق الأوسط إلى مدخل رئيسي ومركز أساسي لهذه السياسة الجديدة ، فالإدارة الأمريكية مقتنعة اليوم بضرورة تغيير خريطة الشرق الأوسط السياسية على مستويات عديدة . وإذا كان من المؤكد أنه ليس هناك سيادة وطنية يمكنها أن تضفي شرعية على الاستبداد ، فإنه - في المقابل - ما من حرب تشنها قوة امبريالية يمكن أن تخاض من أجل الديمقراطية والتنمية .
ويبدو إنّ إسرائيل وفلسطين والعراق هي القاسم المشترك للموقف الأمريكي إزاء كل المنطقة ، أما الحديث عن التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان فهو اللازمة الأخلاقية التي لا بد منها لتغطية المواقف الأمريكية العدوانية ، حتى يمكن الترويج لها إعلاميا . وهذه المواقف الأمريكية هي المنبع الأساسي للكراهية الشعبية للولايات المتحدة في المنطقة العربية ، وهي كراهية لا علاقة لها بالشعب الأمريكي ، الذي هو مثل غيره من الشعوب ينطوي على الكثير من الخير والطيبة والقدرة والكفاءة .
ويبدو أنّ أمر التغيير الأمريكي للمنطقة لا يقف عند حد معين ، فها هي حكومة الولايات المتحدة تستعد لتطوير معركتها الإعلامية والسياسية لإجراء تغيّرات بنيوية في العالم العربي ، وذلك عبر برنامج يرمي إلى " إصلاح المؤسسات الاقتصادية والتربوية والسياسية في الشرق الأوسط " . وقد أتى إعلان وزير الخارجية كولن باول ، في خطاب ألقاه يوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2002 في مؤسسة " هاريتاج " ، عن " مبادرة الشراكة الأمريكية في الشرق الأوسط " في سياق عزم الولايات المتحدة على إعادة هيكلة برامج مساعداتها للدول العربية ، لأنّ الكثيرين في العالم العربي ، كما قال باول ، يعانون اليوم " من انعدام الحريات السياسية والاقتصادية ، والنقص في مجال حقوق المرأة ، والتعليم الحديث الذين يحتاجونه للازدهار في القرن الحادي والعشرين " .
ومما لا شك فيه أنّ المبادرة الأمريكية قد يكون لها أثر في تسريع التحول الديمقراطي في العالم العربي ، ذلك أنّ أمريكا بمبادرتها رفعت الغطاء عمليا عن الأنظمة غير الديمقراطية في المنطقة بالطريقة نفسها التي رفع بها غورباتشوف الغطاء عن ديكتاتوريات أوروبا الشرقية بانتهاج سياسة الانفتاح والتقارب مع الغرب .
ومن هنا يبدو أنّ أغلب من تكفلوا بالرد على المبادرة قد تجاهلوا العملية السياسية المعقدة داخل الولايات المتحدة‏ التي أسفرت عن هذه المبادرة ‏,‏ مما يصعّب إمكانية " الاشتباك الإيجابي " مع هذه السياسة بما قد يساعد على تغيير عناصرها وتصحيح أولوياتها وتقبّل مايبدو منها مقبولا من حيث المبدأ ورفض ما هو جدير بالرفض والمقاومة ‏.‏ ‏ففي عالم الفكر والسياسة الدولية ليس هناك ما يقبل كله أو يرفض كله‏ ،‏ فلو كان من السهل أن نرفض كل ما تقوله الولايات المتحدة لما كانت حاضرة في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا العربية‏ ، ولو كان من المستحيل أن نصحح ونقاوم ما تقوله أو تفعله بغير حق لما كانت هناك فائدة لمنازلة ومقاومة سياساتها في العراق مثلا .‏
ويتضح من قراءة المبادرة بتمعن أنها نبذت المدخل المباشر والضاغط والعنيف للديمقراطية وأخذت بالمدخل العكسي تماما ، أي المدخل " المرن " غير المباشر والمبني على لغة الحوار والمشاركة والحوافز لا لغة الضغط والزجر والحرب والقطيعة‏ .‏ وهنا يكمن الخطأ الأكبر في رفض المبادرة جملة وتفصيلا‏ ،‏ فالرفض الكامل لا يخدم غرضا مفيدا ، بل يوفر ذخيرة للقوى اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة لدحر التيار المسؤول عن صياغة نص المبادرة وانتزاع مسألة الديمقراطية من وزارة الخارجية إلى جهات أخرى وتوظيفه للتوصل إلى أهداف أخرى‏ .‏ إنّ الرد الحقيقي علي ما جاء بالمبادرة نصا وممارسة هو التصدي لما انطلقت منه من مشكلات وقضايا لمصلحة تطورنا نحن وانطلاقا مما نراه نحن قبل غيرنا‏ .‏
من هذا المنطلق لا مناص من الاعتراف بأنّ تطورنا السياسي العربي مازال بعيدا جدا عن الديمقراطية ،‏ وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد ركزت على هذه القضية فلأنها أضعف ما فينا ونقطة الانكشاف القاتلة في تطورنا المعاصر وهو مالا ينفع فيه الإنكار أو الاستنكار‏ .‏ فالجميع يقول بذلك عربا وأجانب ، ولا مناص من مناقشته باستقامة ونزاهة حتى نتعامل مع ما يثيره من قضايا الفكر والفعل بأنفسنا ولأنفسنا ، فنغلق نافذة الانكشاف الحاصلة في موضوع الديمقراطية أو في غيره وبسببه من موضوعات ومجالات ‏.‏
إنّ أخطر ما جاء في المبادرة لا يتعلق مباشرة بالديمقراطية أو بشؤوننا الداخلية عموما وإنما بأهداف السياسة الأمريكية في المنطقة التي يفترض أن تعززها تلك المبادرة ‏، هنا يفرض الجدل نفسه بل وتفرض المقاومة منطقها ومقاصدها‏ .‏ إذ يختلف الناس في العالم أجمع حول الأولويات التي أخذت بها الإدارة الأمريكية ، وتحديدا أنها أعطت أسبقية لمحاربة الإرهاب ونزع تسلح العراق على إيجاد حل عادل وشامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي‏ .‏
أما عن مبادرة الرئيس بوش حول " إقامة منطقة للتجارة الحرة " بين الولايات المتحدة الأمريكية والأقطار العربية في السنين العشر المقبلة ، التي أعلنها يوم 9 مايو/أيار 2003 . حيث قال في كلمة ألقاها في الاحتفال بتخرج 1200 طالب من جامعة " كارولينا الجنوبية " : إنّ إدارته " ستستخدم تأثيرها من أجل إزالة الكراهية وإبدالها بأمل جديد في المنطقة وأنّ الفرصة التاريخية قد حانت بأمل جديد بعد إزاحة نظام صدام حسين في العراق " . وأوضح أنّ هذه الخطــــة " تستهدف تحقيق مزيد من الحرية والرفاهية والسلام في منطقة الشرق الأوســط " . وأضاف أنه عن طريق إبدال الفساد " بالأسواق الحرة والقوانين العادلة ، ستنمو شعوب الشرق الأوسط بالازدهار والحرية " . واقترح " إنشاء منطقة حرة للتبادل التجاري في الشرق الأوسط " خلال عشر سنين ، وتعهد أن تضم الولايات المتحدة البلدان العربية إلى هذه المنطقة بلدا بلدا .
ومتابعة لمبادرة الرئيس بوش أصدر مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية بيانا بتاريخ 9 يوليو/تموز 2003 حول ما أسماه " مساهمات الولايات المتحدة في النهوض بمستوى التعليم في العالم العربي " ، وقد وردت فيه مجموعة تدابير وخطوات تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية اتخاذها ضمن مبادرة الشراكة . إذ تسعى المبادرة إلى سد " فجوة المعرفة " بتحسينها نوعية التعليم ومناسبته للحاجة وتحسينها الفرص التعليمية للفتيات ، بما فيها التي تركز على تحسين الاستعداد الرقمي وزيادة الإلمام بالقراءة والكتابة .
وواضح أنّ الرئيس جورج بوش حاول أن يعيد إطلاق المشاريع التي دفنت في هذه المنطقة خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي . فالحديث عن " الحوض الأوسطي المتصالح " ليس جديدا في أدبيات السياسة الأمريكية وطروحاتها ، فقد سبق أن سمعنا في هذه المنطقة من العالم كلاما كثيرا عن " البحيرة الأمريكية الهادئة والهانئة " التي يمكن أن تدور كأجرام متعاونة حول المحور الأمريكي ، حيث كان يفترض أن تشكل بغداد مفصلا حيويا لإقامة الحلف الذي سمي باسمها أي " حلف بغداد " .
ولعل من أهم الدراسات التي ظهرت بعد كارثة 11 سبتمبر/أيلول ، والتي نرى أنها الرافد الأساسي لمبادرتي الوزير باول والرئيس بوش ، هي دراسة تحت عنوان " من أجل أن نسود " أصدرها مركز الدراسات الأمنية والدولية بواشنطن ، وحثَّ فيها إدارة بوش على علاج الظروف التي سمحت لأسامة بن لادن بتجنيد المهاجمين للولايات المتحدة ، وتلك التي زرعت بذور الكراهية لأمريكا في قلب العالم الإسلامي . إذ قالت الدراسة : " إنّ الدافع الرئيسي وراء غضب المسلمين هو فشل العديد من الدول الإسلامية في تشكيل حكومات عصرية تستجيب لاحتياجات شعوبها واحتياجات المجتمعات المدنية ، التي لا يسمح لها سوى بأقل مستوى من النقاش والديمقراطية " .
كما يعتبرالتقرير الذي وضعه المحلل في مؤسسة " راند كوربوريشن " للدراسات لوران مورافيتش ، وقدمته المؤسسة في العاشر من يوليو/تموز 2002 إلى هيئة السياسة الدفاعية في وزارة الدفاع الأمريكية " البنتاغون " ، أحد أهم المصادر للتعرّف على ما تضمره الإدارة الأمريكية تجاه المنطقة العربية ، برغم ادّعائها أنه مجرد " تقرير غير مسؤول " . فما ينتهي إليه التقرير ، في مجــال " الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط " ، يقول بالحرف ما يأتي : العراق هو المحور التكتيكي ، السعودية هي المحور الاستراتيجي ، مصر هي الجائزة .
ولكي تكتمل أضلاع مثلث " حرب الأفكار " التي قررت الولايات المتحدة شنها على دول العالم ، وبدأت بالمنطقة العربية ، جاءت مبادرتا الوزير باول والرئيس بوش لتعزيز ما أسمياه الديمقراطية ودولة القانون واقتصاد السوق الحرة في الشرق الأوسط . وتوحي المبادرتان أنّ التقدم العربي على هذه الطريق هو تقدم نحو الولايات المتحدة الأمريكية ، باتجاه الصداقة معها وتدجين العداء لها . بينما في الواقع كلما خطا العرب خطوة نحو الديموقراطية كلما ازدادت خصومتهم لها ، و" الأخطر " من ذلك ، كلما ازدادت قدرتهم على حسم هذه الخصومة لصالحهم . فما يسمى العداء العربي لأمريكا ليس هواية ، ولا علاقة له بـ " جينات تكوينيــة " . وهو بعيد عن أن يكون رفضا لقيم الحداثة والحرية والتطور . إنّ ما يسمى " العداء العربي لأمريكا " هو ، في الجوهر ، تعبير عن وجود قضايا عالقة معها ، وعن اعتراضها طريق العرب إلى الاستقلال والحداثة والحرية والوحدة والتقدم .
وبداية يجب أن نعترف بأنّ دول المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى التطور في اتجاه ديمقراطي ، لكن لابدَّ من التأكيد ، في الوقت نفسه ، على :
أولا ، أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد وصفة مستوردة من الخارج بالرغم من وجود معايير كونية لها ، وإنما هي – أساسا - فعل محلي داخلي وطني وتفاعلات ونضالات شعبية .
وثانيا ، أنّ الدفاع الأمريكي عن الديمقراطية وسيادتها بين دول وشعوب العالم كان دائما محل شك ، إلى أن سقطت غلالته الأخيرة بعد أحداث 11سبتمبر/أيلول 2001 وتغطية الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان الفلسطيني من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي وممارسات قوات الاحتلال الأمريكي في العراق حاليا ، فقبل ذلك كانت الولايات المتحدة ترفع " رايات " الديمقراطية والحريات والدفاع عن حقوق الإنسان . لكن ما كان يؤخذ على هذا النهج الأمريكي أنه يتعامل بطريقــة " انتقائية " مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ، بمعنى أنه عندما تكون للولايات المتحدة مصلحة بأن تتحقق الديمقراطية في بلد ما فهي مع هذه الديمقراطية ، وعندما تكون مصلحتها في وجود نظام ديكتاتوري - وهذا حدث في بلدان كثيرة - كانت تغمض العين تماما عن قضية الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ، لأنّ لها قواعد عسكرية - مثلا - في هذا البلد ، أو روابط وتحالفات وثيقة مع تلك الدولة أو هذا النظام لضمان توازنات إقليمية ودولية معينة . فحينما توجد المصلحة الأمريكية إذا ، كان يتحدد الاختيار: ديمقراطية أو لا ديمقراطية .
وثالثا ، أنّ الجانب القيميّ هو أيضا غير محدد ويتصل كذلك بالمصالح الأمريكية البحتة ، وبالتالي فالمفهوم الديمقراطي هنا هو ماينسجم ويتوافق مع سياسات الولايات المتحدة ورؤيتها للأمور ، وكل مايتعارض معها فهو غير ديمقراطي حتى ولو كان نظاما ديمقراطيا بالمعايير الكونية .
من هنا يبدو واضحا أنّ المسألة الديمقراطية في نظر الولايات المتحدة هي عبارة عن " أداة " من أدوات السياسة الخارجية ، فمثلما تستخدم المعونات في دعم الأنظمة والدول من أجل خدمة مصالحها كذلك تستخدم هذا الشعار تبعا لمدى قرب أو بعد النظام المعني من السياسة والمصالح الأميركية ، إذن نحن أمام حالة تتعلق بالمصالح والاستراتيجيات الأمريكية .
وفي العالم العربي لا يجوز الدفاع عن الأمر الواقع الراهن الذي استنفد طاقة المجتمعات العربية وجعل منها بؤرة للطغيان والإرهاب والفساد والتفاهة ، باختصار يدور الأمر حول وحدة معركة الحرية : استقلال الوطن وحرية المواطن والإنسان ، التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية والثقافية وحقوق الإنسان بل كأفضل شرط لتحقيقها . فبكل بساطة لا يمكن للشعوب أن تدافع عن سلطات تجوّعها وتحاصرها وتساومها حتى على حقها في مناقشة الشؤون العامة .
إنّ أهم ماتنطوي عليه احتمالات ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق هو هز المنطقة العربية وزلزلتها وخلخلة أوضاعها‏ ، إذ سوف نشهد ولادة النظام الشرق أوسطي الشامل ، الذي سيكون الاقتصاد هو أحد أوجهه ، لكنَّ الأولوية فيه سوف تكون للشق والمكوّن الأمني . وفي هذا الجانب سيتم إخضاع قدرات كل دول المنطقة إلى السيطرة الصارمة ، وبالشكل الذي يضمن رقابة وهيمنة إسرائيل على قدرات المنطقة بما يجعلها " الدولة الإقليمية الكبرى " في إقليم الشرق الأوسط .
وفي العراق يمكن أن نستشرف ثلاثة آفاق لا سابق لها من التورط الأمريكي هي في صلب ومبررات منظومة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان :
(1)- كانت الغاية المعلنة لأطراف العدوان والاحتلال إسقاط الحكومة لا إلغاء الدولة ، الأمر الذي يعني في القانون الدولي أنّ جملة التزامات هذه الدولة (الجمهورية العراقية) على صعيد حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي تبقى مرجعا علويا بالنسبة لحقوق الإنسان في العراق . وكما أنّ قرارات أية دولة ديكتاتورية في العالم تخالف الشرعة الدولية موضوع استنكار وشجب من قبل المدافعين عن حقوق الإنسان ، فإنّ قرارات إدارة الاحتلال المخالفة لا يجوز السكوت عنها . كذلك فإنّ محاسبة قوات الاحتلال على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية حق من حقوق كل مواطن عراقي كان ضحية لإحدى هذه الجرائم .
(2) - بعكس ما يدعيه الحاكم العسكري من أنّ القرار 1483 يعطي قوات الاحتلال سلطات لا حصر لها ، فإنّ المادتين الرابعة والخامسة تحفظا ما تبقى من ماء الوجه للأمم المتحدة عبر إلزام الجميع بالقانون الإنساني الدولي والالتزامات الدولية الأخرى حيث نصتا على :
يطلب من السلطة أن تعمل ، بما يتسق مع ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية الأخرى ذات الصلة ، على تحقيق رفاه الشعب العراقي عن طريق الإدارة الفعالة للإقليم ، بما في ذلك بصفة خاصة العمل على استعادة الأحوال التي يتوفر فيها الأمن والاستقرار ، وتهيئة الظروف التي يمكن للشعب العراقي أن يقرر بحرية مستقبله السياسي .
يطلب من جميع المعنيين أن يتقيدوا تقيّدا تاما بالتزاماتهم بموجب القانون الدولي بما في ذلك بصفة خاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وقواعد لاهاي لعام 1907 .
إنّ النظام الدولي القائم يحرم الاحتلال والعدوان والحرب ولذلك لا يجوز للدولة المحتلة أن تحل محل السلطات الشرعية ولأي سبب كان ، بمعنى آخر لا يمكن أن يفسر قرار مجلس الأمن 1483 بأنه اعتراف بالعدوان العسكري أو بالحرب العدوانية على العراق . وعليه ، فمن الطبيعي أن يتم وضع الدستور العراقي الجديد والانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة الجهة الوحيدة المسؤولة ، طبقا للقانون الدولي في حالات الاحتلال ، وليس من قبل سلطة الاحتلال التي لا يجوز لها أن تتدخل في الوضع النهائي للإقليم أو الدولة تحت الاحتلال .
وفي الواقع ينطوي القرار 1483 على اتجاهات قانونية جديدة تعطي للقوة دورا حاسما في العلاقات الدولية ، مع كل ما يمثله ذلك من مخاطر على النظام الدولي القائم الذي يتعرض لهزات عنيفة سببها المواقف التسلطية للولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات العالم . إذ يبدو أنّ القرن الحادي والعشرين قد بدأ بعودة قوية للاستعمار الجديد مع كل ما يمثله ذلك من انتهاكات فظة للقانون الدولي الإنساني وعموم قواعد وميادين القانون الدولي .
وهكذا ، لقد دخلنا مرحلة دقيقة جدا ، مرحلة إعادة ترتيب الأوراق دوليا ، وربما إعادة ترتيب الأنظمة والدول والحدود . فالحرب ضد الإرهاب ستغيّر كثيرا من المفاهيم السائدة بين الأمم ، تماما كما غيّرت نهاية الحرب العالمية الثانية مفاهيم العلاقات والتوازنات بين الدول . ومن المؤكد أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ليست بريئة من تضخيم حالة التسيّب التي تكتنف السياسة العالمية ، ولكنّ المسؤولية لا تقع عليها وحدها ، فالمشكلة تتعلق بالفراغ القيادي على أكثر من مستوى في عالم ما بعد الحرب الباردة .
وفي مثل هذه اللحظات التي تختلط فيها المعايير وتغيب فيها النظم القيميّة الواضحة القائمة على الأخلاق ، وتضرب فيها بعرض الحائط مصالح البشرية وخبرتها التاريخية كلها ، وتتجسد فيها مساعٍ حميمة لبلورة نظام تفاعلات دولية غير تعددي ، ولا يعترف إلا بمصالح قوة وحيدة ومن يسيرون في ركابها ، وتتعاظم فيها النزاعات الأحادية الاستعلائية ، تصبح البشرية بأسرها أمام تحدٍ واختبار كبيرين ، لا تنفع فيهما التحركات المنفردة ، ولا تصلح فيها النزاعات الانتقامية العابرة . ويكون الخلاص كامنا في صياغة استراتيجية مواجهة هادئة ، يجتمع حولها المتضررون ، يقيمون بأنفسهم ولأنفسهم صرحا من الحماية وبناء من القوة المضادة لكل ما هو انعزالي وانكفائي وذي طابع استعماري امبراطـوري ، لم يعد يتناسب من النضج الإنساني الذي وصلت إليه المجتمعات البشرية ، رغم ما يواجه بعضها من مشكلات تأخر ونمو.
لقد انتقد العديد من القادة السياسيين الأمريكيين سياسة الإدارة الحالية ، ومن هذه الانتقادات يمكن أن نذكر ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر : " بعدما كان العالم يتطلع إلينا كحماة حقوق الإنسان البارزين ، هاهي العديد من الهيئات الدولية المحترمة المعنية بالمبادئ الأساسية للحياة الديمقراطية توجّه أنظارها إلى بلادنا ... لقد تركنا لبقية العالم تبنّي خيار التفاوض وتنكّرنا لالتزامات الولايات المتحدة بشأن المعاهدات الدولية التي تمَّ التوصل إليها بعناء " .
ويبدو أنّ فسحة من النقاش الجدي تدور في الغرف الخلفية لمراكز القرار الدولي ( منتدى دافوس ، الدول الثماني الكبرى ... ) ، ولعل بعض ما تم تداوله من هذا النقاش يعطينا الفرصة لإلقاء بعض الضوء على جوانب من الزوايا المعتمة في هذا النقاش : إنّ الشرط الحقيقي لحياة أكثر حرية هو وجود بيئة دولية أقل تورطا في إنتاج العداوات ، بعدما تبين أنّ بيئة مؤهلة لإنتاج الكراهية والحقد ليست آمنة حتى لو امتلكت أعتى ترسانة أسلحة في العالم .
وعلى الصعيد العربي يبدو أنّ الإنجاز الداخلي فقط هو الذي يفتح الباب أمام تحقيق تطلعات شعوبنا العربية نحو ضمان حقوق الإنسان والديمقراطية والتقدم ، مما يعني حل معضلات إعادة البناء الاقتصادي والتنمية الشاملة والديمقراطية السياسية والازدهار الثقافي والتوحيد القومي ، من خلال صياغات عقلانية تطلق الإمكانات الهائلة لشعوبنا .

abadi
عضو نشط
عضو نشط

عدد الرسائل : 54
العمر : 50
تاريخ التسجيل : 14/02/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى